10 همسات إلى العلماء وطلَّاب العلم
“لا جرم! إني لأكتب هذا الموضوع والمحاذيرُ تتناوشُني من مكانٍ قريبٍ ومن مكانٍ بعيد، مخافة ألَّا يكون هذا الموضوع لله، ولذلك أقول:
اللهم إن كنتَ تعلمُ أن هذا الموضوع رياءٌ وشُهرة، أو حُبٌّ للظهور والسُّمْعة، أو لأحدٍ مِن خَلقك نصيبٌ فيه، اللهم فسلِّط على هذا الموضوع الأَرَضة تأكلهُ مِن أعلاهُ إلى أسفلِه، واقتُلْه في مهده، وإدْه في استهلاله، واجعل حروفَه شَذَرَ مذَر، وألفاظَه شغَرَ بغَر، ولا تنسأ له في الأثر، واجعل تأثيره لا يُجاوز أرنبة أنفه.
وإن كنتَ تعلمُ أنه خالصٌ لك، مقصودٌ به رضاك، مطلوبٌ به لمُّ الشمل، وجمع الكلمة على الحق والهدى فاكتب له القبول، واجعلهُ يَسِرْ في القلوبِ مسيرَ الشمسِ في الكون، واجعله عُدّةً لي في يوم الشِّدَّة، ثُقْلًا في صحيفة الأعمال، وزيادة في الهدى والتقى.
لا جرم! إني لأكتب هذا الموضوع وقلبي مفعمٌ بالأمل، ممتلئ بالأمنيات أن يَكتب الله له القبول بين شريحةٍ كثيرٍ عديدُها من أهل العلمِ والفضلِ والمنزلة.
لا جرم! إني لأكتب هذا الموضوع وأنا أشدُّ حذرًا مِن هاربٍ بدم، خشية أن يستغله بعض المرضَى في غير ما أُريد له، فيقول: انظروا إلى هذا الرجل مِن دهماءِ النّاسِ وعامَّتهم، كيفَ تُسوِّل لهُ نفسهُ الحديثَ لهؤلاءِ الجِبال، وهُوَ لمَّا يشُمَّ رائحتهم بعد![1]”.
ولكنه عملًا بقولِ رسولِ الله عليهِ الصلاةُ والسلام في الحديث الصحيحِ، الذي رواهُ الصحابيُّ الجليل تميمٌ الداري رضيَ اللهُ عنه: ((الدين النصيحة)) – ثلاثًا -، قلنا: لِمَن، يا رسول الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم))، أكتبُ هذهِ الكلمات.
والمرادُ بأئمَّة المسلمين في الحديث: همُ الذين تَلزم طاعتهم: منَ الحكامِ ومَن يَنوبُ عنهم في الولايات، والعلماءُ الربانيون أهل الحل والعقد الذين شهدت لهم الأمَّة بالإمامة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء : 59]، قال ابن عباس: “هم الفقهاء والعلماء الذين يُعلِّمون الناسَ معالمَ دينهم”، وقال أبو هريرة: “همُ الأمراءُ والوُلاة”، وقال ابن كثير: “والظاهرُ – والله أعلم – أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء”.
أقولُ مستعينًا بالله:
الهمسةُ الأولى:
أصحابَ الفضيلةِ العلماءَ وطلَبة العلم: إنّ للعلماء وأهلِ العلمِ منزلةً عظيمةً في الدين، فهُم ورثةُ الأنبياء، ومصابيحُ الدُّجى، وزينةُ البلد، بهم يُرفعُ الجهل، وتُكشَفُ الغُمة، وتنجلي الظُّلمة، وهم المفزعُ بعد اللهِ عند نزولِ الحوادث والفتن، وهم حصنُ الإسلام وقلعتُه، يدرؤون عن الإسلام وأهلِه كيدَ الأعداء، وفجور المنافقين، وجهل السفهاء، بذلوا أموالهم وأوقاتهم وأعراضهم لله في سبيل نشر الحق والذب عنه.
أقولُ ما قلتُ: تمهيدًا لِما بعده، وتوطيدًا لِما ينبغي عليَّ قولُه، في زمانٍ كثُرَ فيهِ الهَرج، وزادت فيهِ شهيَّةُ الأعداءِ للنيلِ من عقيدةِ المسلمين بعدما نجحوا في نيْلِ دنياهم، وأقبَلوا بخيلِهم ورَجِلِهم لاحتلالِ قلوبِهم بعدما نجحوا في احتلالِ أراضيهم.
وأصبحَ يَتكلّمُ مَن لا دِينَ لهُ ولا خلاق! مُحاولينَ إطفاءَ نورِ الله، ولكن هيهاتَ هيهات، فنورُ ربِّكَ لا يعلوهُ نور! وفجرُ الإيمانِ والحقِّ قادمٌ ولو بعد حين، واللهُ متمُّ نورهِ ولو كرِهَ الكافرون.
إلا أنَّ هذهِ الهجَماتِ المُتتالية لا بُدّ لها مِن رجالِ صدقٍ يدفعونها، وعلماءِ حقًّ يصُدّونها! رجالٌ كرِجالِ الرّعيلِ الأول.
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب : 23].
الهمسةُ الثانية:
قد أوجبَ اللهُ تعالى على أهلِ العلمِ ما لم يُوجِبْهُ على غيرهم، مِن وجوبِ قولِ الحقِّ، وتبيانِ الصدقِ، وتوضيحِ المُبهَمِ، وتجليةِ الغموض. ﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران187].
قال ابن كثير رحِمهُ الله، في تفسيرِ هذهِ الآية: وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَسْلُكُوا مَسْلَكهمْ فَيُصِيبهُمْ مَا أَصَابَهُمْ وَيَسْلُك بِهِمْ مَسْلَكهمْ، فَعَلَى الْعُلَمَاء أَنْ يَبْذُلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْعِلْم النَّافِع الدَّالّ عَلَى الْعَمَل الصَّالِح، وَلَا يَكْتُمُوا مِنْهُ شَيْئًا، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيث الْمَرْوِيّ مِنْ طُرُق مُتَعَدِّدَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: “مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْم فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْم الْقِيَامَة بِلِجَامٍ مِنْ نَار”.
وإنَّ أيَّ تأخيرٍ أو تكاسُلٍ في دفعِ هذهِ الهجماتِ، وصدِّها، وبيانِ الحقِّ فيها ؛ مما يصُبُّ في مصلحةِ الأعداء!
وكما تعلمونَ: فإنَّ تأخيرَ البيانِ عن وقتِ الحاجة لا يجوز!
الهمسةُ الثالثة:
أيْ علماءنا وطلَبة العلمِ الأبرار: إنّ الواقعَ يُشيرُ بِوضوح أن بضاعةَ أعداءِ الله مُزجاة، وتجارتُهم خاسِرة، وإنّما تروجُ سوقهم بِعدمِ وُجودِ مَن يصُدُّ سوءَهم، ويفضحُ مُخطّطاتهم، ويُفنِّدُ شبهاتهم، فاّتقوا الله وبيِّنوا الحقّ للنّاسِِ ولا تكتموه، ولا تكتُموهُ!
الهمسةُ الرابعة:
أيْ علماءنا وطلَبةَ العلمِ منَّا: إنَّ القومَ لمَّا تأكدوا من ضياع “إن الله يزعُ بالسلطان ما لا يزعُ بالقرآن”، أخرجوا رؤوسهم من جُحورهم، وبدؤوا ينفثون سمومهم في وجه أهل الفضيلةِ والإيمان، وهنا وجبَ على أهل: ﴿ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾ [آل عمران: 187] وهمُ العلماء وطلبةُ العلم؛ أن يقُوموا بما لم يقُم به السلاطينُ مِن دفْع جحافل التخريبِ، والتغريبِ، و دعاةِ إشاعةِ الفاحشةِ والرذيلةِ بينَ المؤمنين.
الهمسةُ الخامسة:
علماءنا يا تاجَ الرؤوس: إنَّ الثلَّة المؤمنة، التي تتصدَّى لجهودِ التغريبِ والتخريب وأعداءِ العفاف هم من الدعاةِ الصغارِ من أبنائكم، ممن ينتظرونَ توجيهًا منكم، ويحتاجونَ لبصيرَتكم وعلمِكم، فحِكمتُكم وعِلْمُكم معَ حماسِ الشابِّ وغيْرته يُثمرُ عملًا نافعًا كبيرًا بعونِ الله!
الهمسةُ السادسة:
أيْ معاشرَ العلماء وطلبةَ العلم: نذكِّركم بقولِ ربِّنا تباركَ وتعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1،3].
مَن غيرِكم للجيلِ يهديهِ للسبيلِ؟
هذي مآقي الأمَّةِ ترنوا لكم. وتكادُ مِن دمعِ المواجعِ تغرقُ!
بقوَّتكم يقوى النَّاس، وبدونكم يهلكُ الناس، ويتبلَّدُ الإحساس.
يقولُ ابنُ الوزير: “مَن تركَ الذبَّ عنِ الحقِّ، خوفًا مِن الخَلق، أضاعَ كثيرًا، وخافَ حقيرًا”.
﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء : 18].
الهمسةُ السابعة:
إنَّ العالِم ليعلو ويهبِط بمِقدارِ نصرتِهِ لدينِ اللهِ تعالى، وإنَّ اللهَ نادى عبادهُ وهوَ عنهم غنيٌّ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ ﴾ [الصف : 14] ، فمن لبَّى النداءَ كانَ على سبيلِ محمدٍ وصحبه، ومن تخلَّف ﴿ وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ [التوبة : 46].
الهمسةُ الثامنة:
أيْ ورَثة الأنبياء، إن القلوبَ لا زالت تتوقُ لِمواقفكم، وتتطلّعُ لجهودكم، وتثِقُ في علمِكم وتقواكم. فأنتم رِجالُ المواقفِ، والأمَّة تنتظرُكم. وأذكِّركم بموقفِ الإمامِ أحمد: لما رفضَ الأخذَ بالرخصة خوفًا مِن أقلامٍ تنتظرُ حرفًا مِن فمِهِ تطيرُ به الرُّكبان، فحفِظَ اللهُ به دينهُ في وقتِ محنةٍ أضْحَت بثباتِ العالِم مِنحة.
الهمسةُ التاسعة:
أيُّها السّادةُ العلماء: امضوا ونحنُ معكم ماضونَ، باقونَ على ما علَّمتمونا منَ الغيرةِ لِديننا، والدفاعِ عن مقدَّساتنا وحرُماتنا وعلمائنا.
الهمسةُ العاشرة:
يقول الشيخ العلَّامة: بكر أبو زيد رحمهُ الله تعالى: “إنَّ كشفَ الأهواءِ والبِدَعِ المُضِلَّة، ونقدَ المقالات المخالِفة للكتابِ والسُّنَّة، وتعريةَ الدعاةِ إليها، وهجرَهِم وتحذيرَ النّاسِ منهم وإقصاءهم، والبراءةَ مِن فِعلاتِهم سُنَّةٌ ماضية في تاريخِ المسلمين في إطارِ أهلِ السُّنَّة، معتمدينَ شرطي النقد: العِلم، وسلامة القصد”.
رسالة:
في زمننا هذا سعَى كثيرٌ ممن لا خلاقَ لهُ في الدارينِ، في هدمِ هذهِ الأصول، تصريحًا وتلميحًا، في فتنٍ تموجُ يُرقِّقُ بعضُها بعضًا، صاحَبَها إحجامُ كثيرٍ ممن ينتسبُ إلى العلمِ عن بيانِ الحقِّ طلبًا للسلامة، حتى لُبِّس على العامةِ دينهم، ففي المحنِ والشدائد يطلبُ الكثيرُ منهجَ السلامة، بينما يطلبُ الصفوةُ سلامةَ المنهج، وبهذه الصفوةِ يُحفظُ الدين وتُنصرُ الملة”؛ الشيخ: عبد العزيز الطريفي وفقهُ اللهُ تعالى”.
————————————
[1] أصل هذهِ العبارات “ما بين المعكوفتين” لأحدِ الإخوة الأفاضل – وفقه الله – بتصرفٍ يسير.