الصِّراع الحادُّ الذي تعيشهُ أمَّةُ الإسلامِ المعاصرةُ في سائرِ بلدانها مع جيوبِ التَّغريبِ، وصبيانِ الاستعمار – موضوعٌ مُخيفٌ ومزعجٌ جدًّا لذوي الألبابِ والبصائرِ التي لم تُمازجها لُوثَةُ الافتتانِ بالحضارةِ الماديةِ الزائفة.
وهذهِ المُحاولاتُ التغريبيةُ المبذولةُ هنا وثَمَّ؛ الماضي منها والحاضر، هدفُها – كما لا يخفى – طمسُ مَعالمِ هذا الدينِ، وإزالةُ منائرِه، وإطفاءُ ما أضاءَ من نورِ اللهِ وشريعته، وتذويب أحكامِ الدينِ، وتمييعها في قلوبِ من بقيَ من المستمسكينَ بها، وإن (مَخْرَقوا) وموَّهوا وزعموا خلافَ ذلك، هذهِ حقيقةٌ وعاها المُتابعُ الحاذِق، وفهِمها اللبيبُ المدركُ، وصدَّقها القلبُ المؤمنُ المستنيرُ بِهَدْيِ اللهِ ووحيه، ومنِ ادَّعى غيرَ هذا، فهوَ غِرٌّ أو مغرورٌ، أو هما معًا!
فالحكمُ بغيرِ ما أنزلَ اللهُ، والشركُ الصُّراحُ باللهِ تعالى، وتضييع الصلوات، والتعامُل بالرِّبا، وتطبيع الامتزاج بينَ الرجال والنساء، وشيوع التبَرُّج والسفور في أوساط النساء، ودعوات القضاء على العربيةِ لغةِ القرآن وإحلالِ العامية مكانَها، وظهور المدَنيةِ، وكثرةُ الرحلاتِ العلمية إلى بلادِ الغربِ، وغيرُ ذلك من المعاصي الظاهرةِ والباطنة، التي روَّجها الاستعمارُ وصبيانُهُ وذُيُوله من المستغربينَ في المجتمع المسلم، حتَّى وصَل الحالُ ببلادِ المسلمينَ إلى درجةٍ عالية من التغريبِ وضياعِ البوصلة، معَ قلَّةِ الناصحينَ المُخْلصين والمصلحينَ في الميدان – كانَ تَهديدًا صعبًا لمصيرِ هذهِ الأمةِ الوالغةِ في مستنقع التغريبِ والتبعيَّة للكافر.
ومعَ وجودِ أهلِ العلمِ والدعوة، وتوافُرِ ذوي الرأيِ والإصلاح بادي المحاولات التغريبية، إلاَّ أنَّ المقاومة الشرعية، والممانعة الشعبية لم تكُ مكافئةً للحجمِ الذي قامت بهِ جيوب التغريب في بلاد الإسلام، لا كمًّا ولا كيفًا، والأمرُ لله “وإذا حدَّثَنا التاريخُ عن أمَّةٍ ذلَّت بعدَ عزَّة، أو دولةٍ سقطت بعدَ قوة، فتَبِعةُ ذلكَ الذُلِّ أوِ السقوطِ مُلقاةٌ على رقابِ أولئكَ العلماءِ الذينَ لا ينصحونَ، أوِ الرُّؤساءِ الذينَ لا يُحِبُّونَ الناصحينَ”[1].
ولَمَّا طالَ ليلُ هذا الغَيابِ العُلَمَائيِّ – إن صحَّ الاشتقاقُ – عن ميدان الإصلاحِ؛ أو طالَ تغييبُهُ – لا فرق – واشتدَّ سوادُه، وغدا ليلاً كليْلِ امرِئ القيسِ الذي قالَ فيه:
وَلَيْلٍ كَمَوْجِ الْبَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ
عَلَيَّ بِأَنْوَاعِ الْهُمُومِ لِيَبْتَلِي
أذِنَ اللهُ – عزَّ وجلَّ – لِهذهِ اليقَظةِ الإسلاميةِ المباركة أن تُبعثَ من جديد، فلم يبقَ بيتٌ من بيوتِ المسلمينَ إلا وجدتَ فيهِ نفحةً من نفحاتها، وأصبحَت هذهِ اليقظةُ حديثَ المجالسِ وبهجتها، وفَشَت مظاهرُ الشريعةِ بينَ الناس، كإعفاءِ اللحيةِ وتقصير الثوبِ للرجال، ولبسِ الحجابِ الشرعيِّ للمرأة، وانتشارِ المُحاضراتِ الدَّعويةِ والدروسِ العلمية، وذيوع الشريطِ الإسلاميِّ، وظهور المحاضنِ التربويةِ والإيمانية، وغير ذلكَ من مظاهرَ تتهلَّلُ لَها سُبُحاتُ الوجوه، فسبحانَ من يُحيي ويُميتُ قلوبًا، والحمدُ للهِ من قبلُ ومن بعد!
ثمَّ لَما أن كانتِ الحالُ هذهِ، بعدَ أنِ انتشرَ الخيرُ وعمَّ، وعلا المعروفُ وطمَّ، لم يرضَ ذيولُ الغربِ وصبيانُهُ بذلك، فضاقَت صدورُهم، وهدَرَت شَقاشِقُهم، ولم يتمكَّنوا من تمريرِ أهدافهم، وحِيلَ بينَهم وبينَ ما يشتهونَ من تغريبِ المجتمع، فنشَأَ ساعتئذٍ الصراعُ الذي يمتدُّ إلى يومنا هذا، صراعٌ متنوِّع: “سياسيٌّ، شرعيٌّ، ثقافيٌّ، فكريٌّ، إعلاميٌّ، اجتماعيٌّ”، يقومُ بأدوارهِ شرذمةٌ تَمكَّنتْ من زمامِ الإعلامِ العربيِّ، تساندهم جهاتٌ غربيةٌ مكشوفة، يَمُدُّونهم بالدعمِ والتأييد ثمَّ لا يُقصِرون، يتوارونَ بهم كما يتوارى سائسُ الحمارِ بالحمار! يُصاحبُهُ تواطؤٌ وتمكينٌ حكوميٌّ عرَبيٌّ – أحيانًا – وسكوتٌ عنهم وغضٌّ للطَّرْفِ أحيانًا أخرى.
حتَّى أصبحَ الواقعُ يُحتِّم بأن يَتنادى ثلَّةٌ مباركة من أهلِ العلمِ الشرعيِّ بضرورةِ تطبيعِ الاحتسابِ المُجتمعيِّ وتفعيله، وإحياءِ شعيرةِ الأمر بالمعروفِ والنهيِ عن المنكَر في الأوساطِ التربويةِ الشرعية، وأقيمت في ذلكَ دوراتٌ تدريبية تتعلقُ بهذا الموضوعِ المهمِّ، وقويَت جبهةُ الممانعةِ الإسلاميةِ، وأصبحَت هذهِ الجهود الاحتسابية “مسمارًا في نعش المُحاولاتِ التغريبيَّة” التي أحاطت بالمجتمعِ المسلم في السنواتِ الأخيرةِ، وشَجًى في حُلُوقِ صبيانها، وشوكةً في لَهاتِهم، والحمدُ لله.
وأصبحَ الرائي والمُتابع للتحوُّلاتِ الأخيرةِ ينظرُ بنوعٍ من الدهشةِ إلى تلكَ الأصواتِ الشرعيةِ المُحتسِبةِ على محاولاتِ التغريب، ليسَت مُباليةً بصغيرٍ ولا كبيرٍ ممن يقفُ وراءها من ذوي السُّلطةِ والأمر، صريحةً غيرَ مُجمجمة.
وصدقَ اللهُ – جلَّ جلاله -: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18].
ولكَ أن تتأملَ – عوفيتَ – في حجمِ حَملاتِ التشويهِ والإسقاطِ التي يتعرَّض لَها رموز هذا المنهج في وسائلِ الإعلامِ عرَبيِّها وغرْبيِّها؛ ومحاولاتِ (دقِّ إسفينِ) التحريضِ والاستعداءِ عليها، والوقيعةِ بينها وبينَ السلطةِ السياسيةِ، كلٌّ في بلَدهِ وحُدودِ تأثيرهِ؛ لِتُدرِكَ أنَّ العويلَ على قدرِ الألَم، ولِتُدرِكَ – ثانيةً – أنَّ الوسائل الشَّرعية لِمُقاومةِ هذا السيلِ الجارفِ؛ المتمثِّلة في تطبيعِ شعيرةِ الاحتساب في المجتمع، وقيام أهل العلم والمعرفة بواجبِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المُنكَر – هيَ السبيلُ الوحيدُ لصدِّ هذا العُدوانِ التغريبِيِّ على بلدانِ الإسلام، وأنَّ التصالُحَ والمُلاينةَ، والتلاطُفَ وخفضَ الجناح لِرموزِ مشاريعِ التغريب – لا يعودُ على صاحبهِ إلاَّ بالخيبةِ وصِفرِ العيْبة! ودونَكَ التاريخ، شاهدٌ غيرُ متَّهمٍ، فسائِلْهُ، ولا يُنبِّئكَ مثلُ خبيرٍ.
يقولُ العلاَّمةُ التونسيُّ مُحمَّد الخَضِر حُسيْن – رحمَ اللهُ شيْبته -: “وفي القديمِ وقفَ بعضُ رجالِ الدينِ في بعضِ الفتاوى موقفَ الرهبةِ من السلطان، وجارَوْهُ على الباطلِ بعلَّةِ اتِّقاءِ عقابه، فتجافاهمُ الناس، حتَّى زهَد بعض طُلاَّب العلم في الأخذِ عنهم، كما تركَ أبو زرعة وأحمد بن حنبل الرِّواية عن أحدِ كِبارِ الشيوخِ؛ إذْ أجابَ في فتنةِ خلقِ القرآن..”[2].
ثُم قال: “ومن قرأ التاريخ، وقَفَ على أسماءِ رجالٍ كثير لَم ينالُوا رفعةً في حياتهم، وذِكرًا جميلاً بعدَ مماتِهم، إلا لأنَّهم كانوا يجهرونَ بكلِمةِ الحقِّ في وجوهِ الوجَهاءِ أو الرؤساء، لا يصُدُّهم عن الجهرِ بها خوفٌ من مَكرِهم، ولا طمَعٌ فيما بأيديهم”[3].
وهذا الشيخُ العلاَّمةُ الجزائريُّ مُحمد البشير الإبراهيميُّ – عليهِ رحمةُ اللهِ ومغفِرتُه – يقولُ: “وما زالَت عامةُ الأمم من أولِ التاريخِ تابعةً لِعلمائها وأهلِ الرأيِ والبصيرةِ فيها، تحتاجُ إليهم في أيَّامِ الأمنِ وفي أيَّامِ الخوف، تَحتاجُ إليهم في أيامِ الأمنِ؛ لينهجوا لَها سبيلَ السعادةِ في الحياة، ويُغذُّوها من علمِهم وآرائهم بما يحمِلُها على الاستقامةِ والاعتِدال، وتحتاجُ إليهِم في أيامِ الخوفِ؛ لِيحلُّوا لها المشكِلاتِ المعقَّدةَ ويُخرجوها من المضايقِ محفوظةَ الشرفِ والمصلحة”[4].
وقد أدرَك عظيمَ هذهِ الأمانةِ والمسؤوليةِ شيخُ العربيةِ في عصرهِ؛ العلاَّمة المصريُّ محمود شاكر – نوَّر اللهُ قبرَه – حينما تصدَّى للتغريب، فعاشَ آخرَ حياته مُجاهدًا بقلَمِهِ وبيانهِ تلكَ الرموزَ المنحَرفة التي استماتَتْ في خدمةِ الاستعمارِ والتبشير، وراحَ يهدمُ بُنيانَها بِما آتاهُ اللهُ من بلاغةِ قلمٍ وفصاحته، وحُسنِ منطقٍ، وقوةِ حُجَّةٍ وبيان، فجرَّعهمُ الصَّابَ والعلقَم، وخرَّ عليهِم السقفُ من فوقِهم، وأتاهمُ الخِذْلانُ من حيثُ لا يشعرونَ، واللهُ غالبٌ على أمرِهِ، ويا ليتَ قومي يُدرِكون!
تأمَّلْ – عوفيتَ – ما قالَهُ أبو فِهرٍ عن نفسِهِ مضطرًّا، أثناءَ مُنازلتهِ أحدَ أبواقِ التغريبِ في زمانهِ: “أُحبُّ أن يعلَمَ من لم يكُن يعلَمُ، أنِّي امرؤ لا تُرهبُه بوارقُ الوعيد، ولا تثنيهِ لوائحُ التهديد، ولا تَهُولهُ ألفاظٌ محفوظةٌ تلوكها الأقلامُ الذاهلة، وتَمْضغُها الأفواهُ المتلمِّظة، وأنِّي مذْ خفتُ اللهَ وحدهُ، لَم أَطْوِ قلبًا على مَخافةِ أحدٍ من عباده، وأنِّي مذْ فرَغتُ من أن أشركَ باللهِ أحدًا، لم ترُعني كلمةٌ أُوصَفُ بِها سوى “الشِّرك بالله”، وكلُّ صفةٍ بعد هذه، فمصيرُها عندي ما قالَ زيادٌ في خطبتهِ البتراء: “أن أجعلها دَبْر أذني وتحتَ قدمي”…”[5].
رحمةُ الله عليكَ أبا فهر! وهكذا كونوا أيُّها المصلحونَ في كلِّ زمانٍ.
والواقعُ – بحمدِ اللهِ – مليءٌ بنماذجَ مشرقةٍ منَ الناصحينَ والمُصلِحين، القائمينَ بذلكَ على أنبَلِ وجه، ولولا ما في نفسي من الحرَج لأمتعتُ ناظريْك بأسمائهم، ولا أظنُّهم يَخفَوْنَ – ثبَّتهمُ اللهُ وأعانَهم – فالحيُّ لا تؤمنُ عليهِ الفتنة، ولئن أعرضتُ صفحًا عن ذكرهمُ الآنَ؛ فإنَّ قلمَ التاريخِ لن يستثنيَ أحدًا منهم – بإذنِ الله.
الذي أودُّ قولَه في الختام: إن جهود الاحتسابِ الشرعي بشتَّى طرائقهِ وأنواعهِ تجاهَ المحاولاتِ التغريبيةِ – آتتْ أُكلَها بفضلِ اللهِ وحدَهُ، ثمَّ بتضحيةِ رجالٍ وصبرِهم، حتَّى زالَ بعضُ الشرِّ، وضعُفَ بعضُهُ – ولوْ شئتُ لأوردتُ على ذلكَ أمثلةً متوافرة – وهيَ بحاجةٍ إلى زيادةٍ، ومواصلةٍ، وثبات، معَ “ضرورة أن يكونَ العمَلُ الموَجَّهُ ضدَّ حركة التغريب عملاً منظَّمًا ومؤسَّسيًّا ينطلقُ من أهدافٍ، ويتَّخذ وسائلَ لتحقيقها؛ لأن الجهودَ المبعثرة تكونُ فائدتها ضعيفة، ونتيجتها قليلة، ولا تُحقِّق المقصود منها”، فَبِقدرِ العنَا تُنالُ المُنى، ومَن صبَرَ ظفِر، والعاقبةُ للمتقين، ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51].
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلَّم على قدوتنا وإمامنا محمَّد.
[1] “موسوعة الأعمال الكاملة” للإمام محمد الخضِر حسين 5/ 99.
[2] “موسوعة الأعمال الكاملة” للإمام محمد الخضِر حسين 5/ 36.
[3] المصدر السابق.
[4] “آثار الإمام محمد البشير الإبراهيميِّ” 2/ 126.
[5] “أباطيل وأَسْمار”، ص161.